الجزء الثانى
رابط الجزء الأول : من هنا
![]() |
| الجزء الثانى |
فى سنوات العزلة والغضب ... السعادة هى مجرد اللاشعور بالألم ... فهناك وجع يعتصر أرواحنا ولا ندرك موضعه ... يجثم على صدورنا ويخنق انفاسنا فنصارع من أجل نسمة هواء تنقذنا من هذا الأختناق من هذا الغرق .. نحاول أن نجد فى الصمت والسكون وفعل اللاشيئ بعض من الراحة لكن من يوقف أحاديث النفس الدائرة كمرجل قطار داخل العقل ؟؟ .. لا أحد .. فكل ما حولنا غاضب حتى الجماد الذى كنا نظنه بعقولنا الضيقة الأفق ساكنا لا يقدر على فعل شيئ .. تمشى فى الطريق تقاذف قدمك أحجاره فترتد إليك وتؤذيك ويزداد الوتير القلق العابس .. حتى عندما تهرب تقتحم أفكارك الهلاوس والخوف من الدقائق القادمة .. ترى ماذا ستحمل فى جعبتها من أنواع الألم والقهر والعذاب ؟؟ ولا يسعنا إلا أن ننتظر وكأننا على موعد مع شيئ من هذا القبيل نترقب فى تحير لا نعرف من أين ؟؟ أو متى ؟؟ أو كيف سيأتى ؟؟ وحين سيذهب كل هذا فأنا متيقن أنى سأبحث عنه فى معترك آلامى وذكرياتى وعذاباتى ..
كم هى قوية هذه المرأة وربما هى أقوى منى أحياناً واجهت معى الكثير وكانت وما زالت ونعم الزوجة الصالحة كانت تدفعنى للصواب واثقة بالله لا غير .. كم أحبك وأعشقك كل يوم وكل ساعة ودقيقة أنتى شمسى وقمرى وملاذى وسندى وكل حياتى ... أنت سر صمودى وقوتى .. أمسك يدها الممسكة بالسكين تقشر بها حبات البطاطس أمامها وأقربها لفمى وألثمها بأمتنان فتلقى السكين من يدها وهى تبتسم محذرة : هتتعور . أبادلها الأبتسام وأسألها : مبسوطة ؟؟؟ وبرضى تام تلهج بالحمد وهى تربت بيدها وجهى وتنمق أصابعها خصلات شعرى الفضى فأقبل باطن يدها وأعود بظهرى فى مقعدى مسنداً رأسى على يداى المتشابكتان من الخلف وأنا أشعر بالرضى والفضل لوجود رجاء بحياتى .. رجاء كانت من الفتيات القليلات اللاتى حظين بالتعليم ربما لأيمان والدها خليل أفندى بأهمية التعليم والعمل للمرأة وحصلت على معهد المعلمات والذى كان يتخرج منه المدرسين والمدرسات وقتها وتم تعيينها كمعلمة بأحدى المدارس القريبة وكان هذا من الأسباب التى جعلت أمى تعترض على زواجى منها فى البداية ولكن والدى تكفل بالأمر وقتها وأقنع أمى حتى بعد زواجنا كانت أمى تعترض على عدم قيام رجاء بواجباتها تجاه الأسرة كبقية النسوة المتزوجات من أخوتى وأخواتى البنات وكانت تطلق عليها السنيورة كنوع من التهكم ولكنى لم أتدخل أبداً وهى لم تشكو ولو لمرة واحدة وحين جاءت أمى مرة الى غرفتى ووجهت لرجاء اللوم والتعنيف أمامى فوجئت برجاء تنطلق لتنفذ ما تطلبه أمى دون كلمة وعادت وهى مبتسمة وكنت فى عجب منها وقتها وحين حاولت منااقشة الأمر قالت ببساطة : ملكش دعوة متدخلش نفسك بينى وبين ماما أنا بعرف أراضيها !! وكانت وللعجب موضع تقدير أمى وأحترامها وحبها .. كانت تستطيع التوازن على هذا الخيط الرفيع وتبقيه دائماً فى وصل غير منقطع حتى عندما تم أنتدابى للعمل بالصعيد لفترة كانت لمدة عامان وكنا قد أنجبنا جمال وماليكة لم تشعرنى بشيئ وكأنى مازلت وسط أسرتى بالجمالية وكان والدى هو المستاء الوحيد من الأمر فقد كنت أعود من عملى لأتابع الحسابات بالوكالة وكنت قد أرحته من كاتب الحسابات الكثير الأخطاء وقتها .. وخليل أفندى والد رجاء هو من أنقذنى من رفض والدى لسفرى فقد كان مصمماً وقتها على تركى هذا العمل والتواجد مع أحمد أخى الأكبر وخصوصاً أن جمال أخى الذى يكبرنى مباشرة قد أستشهد بالحرب وكان لهذا الأمر تأثيراً قوياً على والدى وأذكر كلمته التى أثرت فى جداً وقتها : يابنى أتنين يغيبوا عنى مرة واحدة كتير عليا سيب اللى أنتا فيه ده وخليك جنبى . ... بعد كل هذه السنين ولعبة أمسك حرامى التى عشتها أقول لنفسى ليتنى نزلت على رغبتك يا أبى وظللت بجانبك لكنها الأقدار ... نعم هى الأقدار ..عدت من أنتدابى بالصعيد وعادت حياتى لسابق عهدها إلا من شيئ واحد أبى .. فبعد أن عدت مرض أبى وأشتد به المرض فجأة وتركنا الى الرحلة التى نحيا حياتنا كلها لنذهب إليها فى سنة كونية منتظمة رغم عشوائيتها فى مظهرها الفردى فلكل منا أجل وموعد .. وظلت الأمور كما هى أحمد يباشر تجارة والدى وأنا أعود من عملى لأساعده وظللت ببيت الجمالية أنا ورجاء مع أمى التى لحقت بأبى بعد ستة سنوات فقط كانت جلساتى معها خلالها هى التاريخ الذى عاشته مع أبى وكأنها كانت فى شوق دائم له ... كم يأخذ الفقد من أرواحنا شيئاً فشيئ .. وتظل الصور والأشخاص والأماكن تذكرنا بكل تفاصيل الحياة التى عشناها معهم ... هذا الأنتقاص يغيرنا من داخلنا فنصبح مؤمنين بحتمية الموت ولكنه النسيان دائما هو ما يجعلنا نظن اننا فى منأى عنه .. عندما كنت صغيراً كان عمى عاصم فى الثمانين من عمره كهل مقعد الفراش من الأمراض التى تهاجمه .. وجاءنا خبر الوفاة فهرعنا لنجد ابن عمى الشاب المفعم بالشباب والصحة هو من توفاه الله ولم يكن عقلى الصغير يستوعب فلسفة الموت وقتها وظللت فى عجب أسأل من حولى للتأكد من عدم فهمى الخاطئ للموقف حتى أننى أنسللت من بين الزحام ودخلت الى غرفة عمى لأتأكد من الحقيقة كونه حياً أو ميتاً لأجده متكئاً برأسه على يده والدموع تملأ وجنتيه التى نحت الزمن فيه من التجاعيد مالا أستطيع أحصاءه .. وسألته ببراءة الطفل وعفويته مستنكراً بقاؤه وموت هذا الشاب .. قال لى فى حزن : ياريت كنت أنا بس الموت بيختار .. تعرف انا بتموت حتة منى كل ما بيموت عيل من عيالى .. يا ريت كنت أنا !! وتابع البكاء وانا أنسحبت فى صمت وقد أصابنى بشيئ من الحزن الطفولى الأبله منظر عمى الذى توفى بعد ثلاثين عاماً من هذا الموقف وعندما كنت أزوره لأجلس معه قليلاً كان لا يتذكرنى إلا بعد وقت من التدقيق ومحاولة النبش فى الذاكرة المهترئة وكان دائماً يخبرنى بأنه مل من هذه الحياة وأصبح الموت أمنيته الوحيدة !!!
حتى الموت أصبح غير الذى كنا نعيشه فى الماضى نعم الموت تغير !!! كنا نأخذ وقتاً ليس بالهين لنحزن وكان الجميع من حولنا يحترم هذا الحزن فلا تجد أفراحاً ولا لهواً حتى بالمقهى المترامى على أطراف حارتنا وكأن الحزن عدوى كان الجميع يعيش هذا الحداد وكأنه من هو أهل المتوفى .. الموت تغير فتجد عزاء بأول الحارة وفرحاً ورقصاً بأخرها .. لا وأكثر تجد المشيعون فى أغلب الجنازات يتبادلون النكات والقفشات والضحكات بعد الدفن وكأن لا شيئ حدث كيف تحولنا الى هذه اللامبالة العجيبة ؟؟؟ هل أصبحنا لا نخشى الموت ؟؟؟ لا نخشاه لكننا لا نتذكر هذا الخوف ونحن فى معترك الحياة القاسية التى أنستنا كل شيئ حتى أنفسنا ...
أفيق على صوت الهاتف المحمول الذى أنتشر مع بداية الألفية الجديدة وكنت رافضاً لأقتناء أحد هذه الأشياء المزعجة لكن بسبب سفر الأبناء وضرورة وجود طريقة للتواصل أصرت رجاء على شراء أحد هذه الهواتف .. وأصبح ربما الرابط الوحيد بيننا وبين الأهل والأقارب ملعونة هذه التقنيات التى سببت جفاءاً فى تواصلنا مع كل شيئ فبضغطة زر تستطيع التحدث وبضغطة أخرى تستطيع المشاهدة وينتهى الأمر فلا الأجساد ألتقت ولا الأرواح أرتوت من شوقها .. تغيب رجاء داخل المنزل وأظل أراقب منتظراً رجوعها لكن يدق جرس آخر .. جرس الباب أنه جارى المستشار عادل يخبرنى بأنه ذاهب لشراء أحتياجات منزله وإذا كنت أرغب فى مرافقته أو أن يحضر هو ما أحتاجه حسب رغبتى ... كان يعرف أننى متقلب المزاج ... دعوته للداخل لأسأل رجاء عن أحتياجاتها وأدونها له فى ورقة وأعد له القهوة التى أعرف أنه يحبها .. دخل من فوره وتركته ودخلت لأجد رجاء تبكى هلعت أرتجفت من داخلى وأنا أسأله بصوت يملؤه الخوف عن المتصل ؟؟؟ وجدتها تمسح الدموع وتبتسم مما زاد الأمر غرابة فى عقلى وهى تقول فى فرح تخالطه الدموع : نزار جاى يوم الخميس .. وتأخذ نفساً عميقاً وتبتسم والدموع تترقرق من عينها .. أما أنا فكنت فى صدمة لا وتخبط لا أعرف هل أفرح أم أدعى الغضب أم ماذا ؟؟؟ فوجدتنى أحتضن رجاء الى صدرى وكأنى ألوذ بها مما يعتمل فى نفسى وهى تسألنى : أنت مش فرحان ولا أيه .. أفرح بقى كفاية قسوة على نفسك .. ضممتها بقوة وأنا أخبرها أن المستشار عادل بالخارج وسيذهب لشراء أحتياجاته فلتكتب ما تحتاجه قفزت من حضنى للخلف وهى تقول فى سعادة : طبعاً محتاجين حاجات كتير عشان نزار .. أقبل رأسها من الخلف وأطلب منها أعداد القهوة لكلينا واتحرك لأخرج لعادل لكنى أغير رأيى أصعد الى غرفتى وأبدل ثيابى فقد قررت الخروج معه لا أريد أفساد فرحة رجاء بحالة أرتباك المشاعر التى أصابتنى من خبر عودة نزار الذى سافر دون علمى دون حتى كلمة وداع دون أن يستشيرنى حتى فى أمر سفره !
أجلس الى الطاولة وعادل يبتسم وهو يسألنى : شكلك جاى معايا ؟؟
أهز رأسى فى تباطؤ فيسألنى : مالك فى حاجة :
أجيبه وأنا فى حالة من التبلد : نزار جاى من السفر يوم الخميس !!
عادل : طب وانت مالك عامل كده ليه المفروض تكون فرحان .. بطل مكابرتك مع نفسك الولد غلط بس مش اللى يخليك تكون فى حالة الرفض اللى أنا شايفه دى ؟؟
ألمح رجاء تخرج حاملة القهوة وعلى وجهها أبتسامة فرحة فأنظر لعادل : بعدين عشان رجاء مش عاوزها تضايق .
تضع رجاء فناجين القهوة وعادل يهنئها بعودة الأبن الضال هذا ما أهتدى له عقلى لأجد شبهاً قريباً .. ورجاء فرحة تتركنا وتدخل وهى تخبرنى أنها ستتصل بالخادمة التى تساعدها عندما تريد أن تنظف المنزل وهذا معناه مشوار آخر الى القاهرة لأحضارها من الجمالية .. أهز رأسى فيما يشبه التفهم وأبتسم نصف ابتسامة باهته وهى غير منتبهة لى تماماً .. يبدو أننى سأتخلى عن عزلتى لفترة من الوقت فهل سأستطيع التخلى عن الغضب من نزار هل أستطيع أن أفرح وأن أنسى كما يفعل جميع البشر هم ينسون حتى الموت ..
أنطلقنا أنا وعادل بسيارته وهو يثرثر وأنا أجيب بجمل مقتضبة وجدته يقول : شكلك مش عاوز تتكلم هسيبك براحتك .
دخلنا الى محطة الوقود ليملأ السيارة وتوقفنا حتى تفرغ أحد الماكينات وأنا شارد وفجأة صدمتنا سيارة من الخلف ووجدت عادل يقفز من السيارة وهو يطلق اللعنات على هذا الغبى الذى نزل بدوره من سيارته وهو يطلق السباب وحقيقة أننى كنت شارد الذهن فلا أعرف من المخطئ فعلياً فنزلت لأحاول تخفيف حدة الموقف وأنهاء المشكلة وحاولت تهدئة عادل الذى استجاب لى وصمت وبدأت أوجه كلامى للشاب وأحاول تهدئته دون جدوى وهو فى نوبة من الصراخ والسباب وبدأت الحرقة والألم التى تنتابنى أسفل بطنى عندما أنفعل .. والجميع يحاول اسكات هذا الشاب دون جدوى وفجأة وجدته يوجه لى السباب وبدأت الهستيريا التى هربت منها يبدو أنهاعادت لتطاردنى .. أصبح جسدى ينتفض أنفعالاً وأصبحت الرؤية مشوشة والأشباح تعدو يميناً ويساراً فى تخبط وأذرع تتشابك وأخرى تحاول الفكاك دون جدوى ... ها قد عاد الغضب ....
لم أستفيق مما حدث إلا وأنا فى سيارة عادل منطلقين فى طريقنا بالسيارة وهو يضحك بصوت عالى وأنا واجم لا أعرف لماذا يضحك ؟؟؟
عادل وهو يتابع الضحك : أما كان حتة قلم .. خده وبقى بيجيب دم من كل حتة .. ويتابع الضحك بهستيرية : بس يستاهل عيل قليل الأدب مش محترم حد لا كبير ولا صغير .. بس عفارم وقفته عند جده هوا قلم خرصه والناس قامت بالواجب ..
كنت فى حالة من الأستياء مما حدث فأنا اكره الغضب أكره هذه الرعشة التى تتملك جسدى وهذا الفوار فى دمى وكأنه يصارع بداخلى فى عجلة ليضخ المزيد والمزيد من الدماء .. أمقت أدرنالين العضب الأعمى الذى يصيبينى .. وأمقت حتى أفعاله لأننى لا أسيطر عليها ... لكن كم من الأشياء التى لا نسيطر عليها فى انفسنا ؟؟ الكثيروالكثير لا أستطيع أن أعدد لكنه وحده ما يجب أن أكبح جماحه هذا الغضب والسعار المحموم الذى يجعلنا نرتكب الحماقات ويظهر حيوانيتنا المتوارية فى الصورة البشرية التى تعلو هياكلنا لتخبئ كمٌ هائل من الشرور .. ها قد عاد الغضب
يتبع فى الجزء الثالث

استمرررر جميل
ردحذف